قال الجاحظ في باب محاسن الكتابة والكتب:
” كانت العجم تقيد مآثرها بالبنيان والمدن والحصون، مثل بناء ازدشير وبناء اصطخر، وبناء المدائن والسدير، والمدن والحصون، ثم أن العرب شاركت العجم في البنيان، وتفردت بالكتب والأخبار، والشعر والآثار؛ فلها من البنيان غمدان، وكعبة نجران، وقصر مأرب، وقصر مارد، وقصر شعوب، والأبلق الفرد وغير ذلك من البنيان، وتصنيف الكتب أشد تقييداً للمآثر على ممر الأيام والدهور من البنيان، لأن البناء لا محالة يدرس، وتعفى رسومه، والكتاب باق يقع من قرن إلى قرن، ومن أمة إلى أمة، فهو أبداً جديد، والناظر فيه مستفيد، وهو أبلغ في تحصيل المآثر من البنيان والتصاوير. وكانت العجم تجعل الكتاب في الصخور، ونقشاً في الحجارة، وخلقة مركبة في البنيان، فربما كان الكتاب هو الناتيء، وربما كان هو المحفور، إذا كان ذلك تاريخاً لأمر جسيم، أو عهداً لأمر عظيم، أو عظيم، أو موعظة يرتجى نفعها، أو أحياء شرف يريدون تخليد ذكره، كما كتبوا على قبة غمدان وعلى باب القيروان، وعلى باب سمرقند، وعلى عمود مأرب، وعلى ركن المقشعر، وعلى الأبلق الفرد، وعلى باب الرها؛ يعمدون إلى المواضع المشهورة والأماكن المذكورة، فيضعون الخط في أبعد المواضع من الدثور، وأمنعها من الدروس. وأجدر أن يراه من مر به، ولا ينسى على وجه الدهور .
ولولا الحكم المحفوظة والكتب المدونة، لبطل أكثر العلم، ولغلب سلطان النسيان سلطان الذكر، ولما كان للناس مفزع إلى موضع استذكار، ولو لم يتم ذلك لحرمنا أكثر النفع، ولولا ما رسمت لنا الأوائل في كتبها، وخلدت من عجيب حكمتها، ودونت من أنواع سيرها، حتى شاهدنا بها ما غاب عنا، فتحنا بها كل مستغلق، فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم، وأدركنا ما لم نكن ندركه إلا بهم، لقد بخس حظنا منه، وأهل العلم والنظر وأصحاب الفكر والعبر، والعلماء بمخارج الملل وأرباب النحل، وورثة الأنبياء وأعوان الخلفاء، يكتبون كتب الظرفاء والصلحاء، وكتب الملاهي، وكتب أعوان الصلحاء وكتب أصحاب المراء والخصومات، وكتب السخفاء وحمية الجاهلية، ومنهم من يفرط في العلم أيام خموله وترك ذكره وحداثة سنه، ولولا جياد الكتب وحسانها لما تحركت همم هؤلاء لطلب العلم، ونازعت إلى حب الكتب، وألفت من حال الجهل وإن يكونوا في غمار الوحش، ولدخل عليهم من الضرر والمشقة وسوء الحال ما عسى أن يكون لا يمكن الإخبار عن مقداره إلا بالكلام الكثير.”
المصدر : المحاسن والأضداد ،المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: ٢٥٥هـ)