الأصولية الدينية في العالم الإسلامي كصناعة امبريالية :
مكن النظر إلي البعث الإسلامي كحركة تحرير سياسية ونهضة ثقافية علي أنه النقيض المباشر لعملية التغريب، فهو نتيجة لعصر الامبريالية، تماماً كما هي حال «التنوير» و «التحديث».
فعلي الصعيد السياسي العقائدي شهد الشرق الأوسط الحديث ثلاثة تحديات خلال تصادمه مع المعضلة الاجتماعية والاقتصادية التي ولدتها الهجمة الأوروبية. ومثّل التحديان الأولان، أي العلمانية والأصولية، قبولاً واضحاً للنمط الأوروبي ورفضه المبرم علي التوالي.
أما التحدي الثالث الذي نطلق عليه تعبير الاصلاح فقد انتهج حلاً وسطاً. ومهما يكن من أمر، فلم يكن كل تحد من هذه التحديات عقيدة جديدة أو نظرية اجتماعية بل أشكال وعي نضجت في رحم المجتمع الأبوي المستحدث وعكست ردود فعل متباينة لمشكلة التحديث المشوه.
و كان المفرّ الوحيد من سيطرة أوروبا المباشرة يكمن في البحث عن أشكال مختلفة من المقاومة. و حتي في المجالات التي بدا فيها النضال مجدياً، فإن علاقات التبعية بقيت سائدة واشتدّ ساعدها. و تتضح أهمية هذه الحقيقة متي أخذنا بدراسة النمط الياباني الذي يجسد البرهة التاريخية الوحيدة للتملص الناجح من قبضة الهيمنة الأوروبية المباشرة، وكان ذلك مرده مقدرة اليابانيين علي انتهاج تحديث مستقل يمكنهم من التطور بسرعة كافية تحول دون سقوط اليابان عسكرياً. وبالطبع، فإن ذلك نجم عن عدة عوامل هي وجود اليابان في موقع جغرافي ناء، وعزلتها، إضافة إلي مناعتها النسبية في مقاومة أي عدوان عليها (أي علي النقيض من قرب العالم العربي وانفلاشه وعدم توفر مقاومته العسكرية). ولكن هناك سببًا آخر هو أكثر أهمية، فبدءاً من استعادة الامبراطور ميجي الحكم في 1868 تميز النظام الأبوي الياباني، وبخلاف نظيره العربي (أو الهندي أو الصيني) بخاصيتين فريدتين: وحدة سياسية ـ جغرافية وقيادة حكيمة قديرة.
كان أول تحديات النظام العربي الأبوي وأشدها صلابة و أطولها ديمومة بعد إحكام السيطرة الأوروبية عليه قد تجسد في العودة إلي التقاليد الإسلامية. و أصبح الإسلام بصفته عقيدة ونموذج تنظيم اجتماعي المحور الطبيعي للمقاومة التي تمثلت في أربع انتفاضات سياسية ـ دينية ضد الهيمنة الامبريالية: عبدالقادر في الجزائر ضد فرنسا، والمهدي في السودان ضد بريطانيا، وعمر المختار في ليبيا ضد إيطاليا، وعزالدين القسام في فلسطين ضد الانكليز. ومن الجدير بالاهتمام أنه طيلة حقبة النضال ضد الهيمنة الأوروبية كانت الانتفاضة ما إن ترتبط بالجماهير حتي تتحول من حركة سياسية محدودة أطلقتها القيادة الوطنية إلي ثورة إسلامية عارمة.
فخلال مرحلة النضال لتحقيق الاستقلال لم تتحول أية انتفاضة تقودها الزعامة الوطنية إلي حركة جماهيرية دون استلهام الباعث العقائدي للثورة من التراث الإسلامي. ولذلك فإن النضال الوطني ضد المستعمر استمد وحيه وقوته من العرف الأبوي وليس من العقائد العلمانية التي بشرت بها النخبة المثقفة. وهذه حقيقة يمكن في ضوئها تفسير عدم إحداث تحول اجتماعي جذري عقب الثورات الوطنية الكبري خلال نصف القرن الأخير. ومن الصعب فهم تطور الإسلام التقليدي أو الأصولية إلي حركة سياسية ملحة دون الأخذ بعين الاعتبار العلاقة الجدلية القائمة بين الأصولية من جهة والامبريالية والتحديث من جهة أخري. فقد استمدت الأصولية الإسلامية المبكرة صلابتها ومحتواها كحركة مسلحة من مقاومتها العنيدة للهيمنة السياسية والثقافية الأوروبية. واكتسبت هذه الأصولية زخمها كعقيدة ليس من نظريات نقدية، بل من تحديها غير المساوم لوضع اجتماعي ـ سياسي لا يحتمل. ولذا رأت هذه الأصولية أن خلاصها يكمن ببعث ماضي الإسلام المجيد، فاعتمدت علي النص القرآني للبرهنة علي إمكانية إيجاد مجتمع إسلامي أصيل في هذا الزمن المعاصر، فيما لو أن المسلمين عادوا إلي الصراط المستقيم ووحدوا صفوفهم في وجه عدوهم التاريخي.
والإسلام التقليدي لهو بالضرورة تصوفي وحنيف وشعائري ومجرد، إلا أنه يتحول فقط إلي أصولية مسلحة بفعل ما يحدثه وما يقوله قادته الجدد أثناء استجابتهم لأزمة وطنية. وعليه، فإن الطابع العدائي والمطلق للعقيدة الأصولية ليس بالتالي مظهراً مرتبطاً وثيقاً بالمذهب التقليدي. ومن هنا فإن الغليان الأصولي يخمد وتنحل قواه متي حل السلام وتحقق التوازن الاجتماعي من جديد.
ومن الضرورة بمكان ملاحظة أن الإسلام التقليدي في نضاله ضد الامبريالية قد اكتسب تجربة تحديثية، ليس فقط في أساليبه بل أيضاً في توجهه وممارسته إلي حد ما. قام بتطوير أنماط تنظيمه السياسي ورضي بتعديل بعض نماذج العقلانية الغربية وتقنياتها. إلا أنه بقي يعاند الاختلاف معه، فلم يقبل بالمساومة. ومن هنا فإنه لا يرضي إلا بالنصر أو الشهادة لحسم دفّة الصراع. ومتي استوي علي سدة الحكم، فإنه يميل إلي المحافظة ويتشبث بالسنة والطاعة السياسية.
و لم يكن الخلاف بين الأصوليين والعلمانيين (الوطنيين واليساريين الثوريين) خلافاً علي قضية دينية أو خلقية، بل كان سياسياً محضاً. ولأن الوطنية العلمانية لم تكن قادرة علي التعامل بنجاح مع القضية السياسية للهيمنة الأجنبية ولم تتمكن من تحقيق الوحدة العربية، فقد أدت في نهاية المطاف إلي التطرف الديني. وعليه فقد استفادت الحركة الأصولية من إخفاق العلمانية ونجاح الامبريالية.
وحين وجد المصلحون المسلمون أنفسهم محاطين بالمسلمين المحافظين والقوميين العرب، فإنهم اضطروا إلي تبني موقف معتدل، سياسياً و عقائدياً. إلا أنهم أخفقوا في النهاية في مسعاهم هذا، ربما لأنهم مضوا بعيداً في معالجة بعض القضايا ولم يتمكنوا من معالجة غيرها، إلا أن سبب إخفاقهم الرئيسي يعود إلي أنهم قد قبلوا بموقف مساوم ضعيف، ولأنهم عالجوا القضايا الحياتية الملموسة من خلال التجريدات العقائدية، لا من خلال الواقع الحي المعيش. إن أخذهم الساذج بالعقل (علي صورة الاجتهاد) قد أوقعهم في مناظرات سياسية عقيمة، بيد أنها لم تخلُ من طرافة. دعوا إلي التغيير، ونادوا بحكومة برلمانية ليبرالية تنهض علي مبادئ إسلامية متنورة. ولم يكن مفاجئاً أن بقوا أقلية صغيرة كان أثرها محدوداً، علي الرغم من أهميتها في مرحلة تكوين اليقظة العربية، ثم ما لبثت هذه الأقلية أن فقدت تأثيرها بصورة مطردة خلال المراحل المتعاقبة للهيمنة الأوروبية وفي فترة الاستقلال.
الجدير بالذكر أنه بخلاف آراء الأصوليين، فإن آراء المصلحين لم تجد لها صدي مسموعاً في صفوف الجماهير.وعليه، فإننا نستطيع تكوين فكرة ما عن مدي فعالية الهيمنة الإمبريالية في قولبة الوعي والممارسة السياسية في المجتمع الأبوي المستحدث.وبإيجاز، ففي المجال السياسي كانت الإمبريالية مسئولة عن تفتيت الوطن العربي سياسياً واقتصادياً وتعزيز السلطة الأبوية التقليدية (بتحديثها)، وبالتالي المساهمة فعلياً في نشوء الأبوية المستحدثة كما نشهدها اليوم.
ونتيجة ذلك، فإن الأبوية المستحدثة قد تمكنت اجتماعياً ونفسانياً (علي مستوي الطبقة وعلي مستوي العقيدة) من أن تكتسب قوة وزخماً كافيين، بحيث أنها عطلت مسار الإصلاح السياسي الهادف وأعاقت التطور الديمقراطي الصحيح، إضافة إلي أنها اقتلعت جذور أي فكر ماركسي وجذري وأجهزت عليه في مهده. ولذلك، فإنه يتوجب النظر إلي الأبوية والإمبريالية علي أنهما، موضوعياً، حليفان متآزران يعيقان تقدم أي تغيير اجتماعي ـ سياسي طبيعي.
لم يصمد هذا التحالف اللاواعي في مرحلة السيادة الوطنية (والاستقلال) فحسب، لكن أيضاً أصبح أكثر فعالية كلما عملت كل دولة عربية استقلت حديثاً علي تعزيز سيادتها واستقلالها. فعقب انتهاء مرحلة استعمار الوطن العربي أصبحت الوحدة خطراً علي الوضع الراهن ووازتها خطراً الاشتراكية ـ وكانت هذه الأخيرة تشيع الخوف في بعض الأنظمة العربية أكثر مما كانت عليه في عقر الرأسمالية نفسها. يمكن القول، إذن، إن الإمبريالية الأوروبية قد شوهت عملية التقدم الاجتماعي والسياسي من ناحيتين: بتقويض التطور الاقتصادي الطبيعي (النمو الرأسمالي) ـ لا سيما في مصر، حيث عملت الرأسمالية منذ نهاية حكم «محمد علي» علي إعاقة النمو الصناعي، وحجمت الاقتصاد ليقتصر علي الإنتاج الزراعي فحسب، وفي الوقت نفسه عرقلت بروز طبقة عاملة في المدن، الأمر الذي أدّي إلي ترسيخ البني الاجتماعية والسياسية للأبوية المستحدثة وتقويتها.إلا أن أثر التشويه الذي أحدثته الامبريالية كان أكثر وضوحاً في المجال الثقافي. فمن الوجهة الاجتماعية ـ السياسية كان لاستعمار الوعي (وكذلك اللاوعي) نفوذ أوسع من الاحتلال العسكري أو الهيمنة السياسية في دفع عجلة تطور بنية الأبوية المستحدثة. ومن هذا المنطلق، لا يمكن النظر مجدداً إلي هذه المشكلة كما تأخذ بها نظرية التحديث ـ أي باعتبار أن التحديث يهدد «المجتمع التقليدي»، أو أن مصاعب التنمية تترسب ثم تؤدي إلي تشكل «متخلف». بل يتوجب الأخذ بوجهة النظر القائلة بأن المجتمع الأبوي قد اضطر إلي تبني النماذج الاقتصادية والأنماط الثقافية الأوروبية في ظل الأوضاع المشوهة الناتجة عن الهيمنة الإمبريالية، والسيطرة الثقافية والتبعية الاقتصادية. ومن هنا نجد أن الثقافة الأبوية المحدثة (الأبوية المستحدثة) فقدت توازنها وانسجامها، واتصفت بالتملق في العلم والدين والسياسة، إضافة إلي عجزها السياسي وتلكؤها الثقافي، وابتعادها عن الحداثة الأصيلة، أي، فقدانها تحرير الذات المنشـود.