ميشيل فوكو : تدبير الحقيقة
المهم، على ما أعتقد، هو أن الحقيقة ليست خارج السلطة ، و لا هي دون سلطة (ليست الحقيقة جزاء النفوس المفكرة الحرة، وهي ليست وليدة الخلوات الطويلة، و ليست وقفا على أولئك الذين عرفوا كيف يتحررون من الالتزامات، و هذا على رغم ذيوع أسطورته ربما وجبت إعادة النظر في تاريخها و وظائفها). إن الحقيقة من هذا العالم، فهي ناتجة فيه بفضل إكراهات متعددة، وهي تتمتع بمفعولات منتظمة للسلطة.
لكل مجتمع نظامه للحقيقة ، و “سياسته العامة ” لها، وأعني أنماطا من الخطاب يتقبلها و يجعلها تعمل كخطابات صادقة ، وآليات وهيئات تمكن من التمييز بين المنطوقات الصادقة وبين الخاطئة، و الكيفية لمكافأة تلك، وتقنيات و طرق يخوّل لها الحصول على الحقيقة، ومنزلة لأولئك الذين يوكل إليهم قول ما يَعمل كحقيقة.
في مجتمعات مثل مجتمعاتنا الغربية، يتحدد “الاقتصاد السياسي” للحقيقة بخمس سمات تتمتع بأهمية تاريخية : فـ ” الحقيقة ” { أولاً} تتمركز حول شكل الخطاب العلمي والمؤسسات التي تنتجه، ثم {ثانياً} إنها خاضعة لنوع من التحريض الاقتصادي والسياسي الدائم (الحاجة إلى الحقيقة سواء من أجل الإنتاج الاقتصادي أو من أجل السلطة السياسية).
ثم { ثالثاً} إنها موضوع نشر واسع واستهلاك بشتى الأشكال (فهي تتداول في أجهزة التربية أو الإعلام التي تمتد امتدادا واسعا نسبيا في الجسم الاجتماعي رغم بعض القيود المحددة) و الحقيقة { رابعاً} يتم إنتاجها و نقلها تحت الرقابة المهيمنة لبعض الأجهزة السياسية أو الاقتصادية الكبرى (الجامعة، الجيش، الكتابة، وسائل الاتصال الجماهيرية)، و أخيرا فهي مدار جدال سياسي بكامله ومواجهة اجتماعية (الصراعات الأيديولوجية)
يبدو لي أن ما يجب الآن أخذه بعين الاعتبار عند المثقف، ليس كونه “حاملا لقيم كونية”، و إنما كونه يحتل موقعا خاصا، إلا أنها خصوصية مرتبطة بالوظائف العامة لجهاز الحقيقة في مجتمعاتنا الغربية.
حصيلة القول فإن المسألة السياسية ليست هي الخطأ والوهم والوعي المستلب أو الأيديولوجيا، إنها هي الحقيقة ذاتها
بعبارة أخرى، فإن المثقف يتحدد بخصوصية ثلاثية : خصوصية موقعه الطبقي ( بورجوازي صغير في خدمة الرأسمالية، أو مثقف “عضوي” من البروليتاريا)، خصوصية ظروف عيشه وعمله المرتبطة بوضعه كمثقف (ميدان بحثه، موقعه داخل المختبر، المتطلبات الاقتصادية أو السياسية التي يخضع لها أو التي يتمرد عليها داخل الجامعة، داخل المستشفى الخ…) وأخيرا خصوصية سياسية الحقيقة في مجتمعاتنا الغربية. وهنا بالضبط يمكن لموقعه أن يتخذ دلالة عامة ، كما يمكن للنضال المحلي أو الخاص الذي يخوضه أن يسفر عن نتائج و مفعولات تتجاوز الحدود المهنية أو القطاعية. إنه يعمل حينئذ أو يناضل على المستوى العام لنظام الحقيقة الذي غدا شديد الأهمية بالنسبة لبنيات مجتمعاتنا الغربية و سيّر أمورها.
هناك نضال “من أجل الحقيقة”، أو على الأقل نضال “حول الحقيقة” وغني عن التأكيد أنني لا أعني بالحقيقة “مجموع الأشياء الصادقة التي يكون علينا اكتشافها أو جعل الآخرين يتقبلونها” و إنما “مجموع القواعد التي نميز عن طريقها الحقيقي عن الخاطئ فننسب إلى الحقيقي سلطة ذات تأثيرات خاصة”
كما هو غني عن التأكيد كذلك أن الأمر لا يتعلق بالنضال” لصالح” الحقيقة، وإنما بالصراع حول منزلة الحقيقة و الدور الاقتصادي والسياسي الذي تلعبه.
علينا أن نطرح القضايا السياسية للمثقفين لا من خلال الثنائي “علم/أيديولوجيا”، و إنما من خلال الثنائي “حقيقة/سلطة”. آنئذ يمكن إعادة النظر في قضايا مهنة المثقف وتقسيم العمل إلى يدوي وفكري.
قد يظهر كل هذا ملتبسا بعيدا عن اليقين، صحيح، وما أقوله هو أساسا مجرد فرضيات، ودفعا لكل التباس ، أود أن أقترح بعض “القضايا”، لا على أنها أشياء مقبولة، وإنما على أنها أفكار يجب أن تخضع مستقبلا للتمحيص.
نعني ” الحقيقة ” مجموع الطرق المنتظمة التي نتبعها لإنتاج المنطوقات وتدبيرها وتوزيعها ونشرها.
إن ” الحقيقة ” مرتبطة بأنظمة السلطة التي تولدها وتساندها، لكنها مرتبطة كذلك بمفعولات السلطة التي تتمخض عنها وتسوسها. وهذا هو “نظام” الحقيقة. هذا النظام ليس مجرد نظام إيديولوجي أو نظام ينتمي للبنية العليا، إنه كان شرطا لنشأة الرأسمالية و نموها. وهو الذي يعمل في معظم البلدان الاشتراكية مع بعض التحفظات( أدع جانبا مسألة الصين لأنني لا أعرفها).
إن المشكل السياسي الأساس، بالنسبة للمثقف ليس أن ينتقد المضامين الأيديولوجية التي قد تكون مرتبطة بالعلم، كما أنه لا يكمن في أن يعمل بحيث تكون ممارسته العلمية مصحوبة بايديولوجيا صائبة. إن المشكل هو أن يعرف ما إذا كان بالإمكان سن سياسة جديدة للحقيقة، ليست القضية هي تغيير “وعي” الناس أو ما يدور بخلدهم، وإنما تغيير النظام السياسي والاقتصادي و المؤسساتي لإنتاج الحقيقة.
لا يتعلق الأمر بتخليص الحقيقة من كل منظومة سلطة، إذ أن ذلك عين الوهم ما دامت الحقيقة ذاتها سلطة ، وإنما بإبعاد سلطة الحقيقة عن أشكال الهيمنة (الاجتماعية والاقتصادية والثقافية) التي تعمل في حضنها لحد الآن.
حصيلة القول فإن المسألة السياسية ليست هي الخطأ والوهم والوعي المستلب أو الأيديولوجيا، إنها هي الحقيقة ذاتها.
تعريب : محمد سبيلا و عبدالسلام بنعبدالعالي