زبغنيو بريجينسكي : نهاية الهيمنة الأمريكية - نواقيس
زبغنيو بريجينسكي : نهاية الهيمنة الأمريكية - نواقيس

زبغنيو بريجينسكي :الهيمنة الأمريكية الأحادية قد انتهت

بحكم انّ حقبة هيمنتها العالمية قد ولّت فإن الولايات المتحدة بحاجة إلى أخذ زمام المبادرة في إعادة تنظيم هندسة- Architecture القوة العالميّة

تمهيد :

كتب زبغنيو بريجينسكي ( ZBIGNIEW BRZEZINSKI (1928-2017 هذا المقال في الـ 2016 أي  قبل عام من وفاته ، تكمن خطورة هذه الوصية الأخيرة بما يحتمله من رؤية استرتيجية متكاملة لإعادة التموضع الأمريكي بعد التراجع الواضح في الدور و الهيمنة الأمريكيين في العقود الثلاثة الأخيرة و خاصة منذ الاجتياح المدمر للعراق في 2003 ( و الذي كان بريجينسكي من المعارضين البارزين له ).   يعتبر” بريجينسكي ”  من أهم العقول الاستراتيجيّة في القرن العشرين، منذ عمله مستشاراً للأمن القومي في إدارة الرئيس ” جيمي كارتر” و شغله لعدة مناصب كمستشار و أكاديمي  في مؤسسات عدة منها : مجلس العلاقات الخارجية،  والمجلس الأطلسي،  والوقف الوطني للديمقراطية،  والأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم،  و اللجنة الثلاثية .  و نورد هنا الترجمة الكاملة للمقال الهام و الخطير الذي نُشر بعنوان : Toward a Global Realignment .

كذلك ننوه إلى أنّ جميع العبارات الواردة بين الأقواس على هذا الشكل[…] هي من وضعنا أمّا ما بين هذه الأقواس (…) فهي منقولة و مترجمة من النص الأصلي للمقال . و نرجو منكم عند وجود أية ملاحظات أو تصويبات على الترجمة مراسلتنا حولها . علماً أن أسلوب الكاتب و جمله الطويلة لم يكن من السهل ترجمته خصوصا إذا ما اعتبرنا اللغة المراوغة للسياسيين ، كذلك فضلنا أن نعرّب كلمة Geopolitics و مشتقاتها بـ ” جيوبولتيك و جيبولتيكي” بدلا من ” الجغرافيا السياسيّة ” .

زبغنيو بريجينسكي : نهاية الهيمنة الأمريكية و إعادة التموضع

Toward a Global Realignment 

بحكم انّ حقبة هيمنتها العالمية قد ولّت فإن الولايات المتحدة بحاجة إلى أخذ زمام المبادرة في إعادة تنظيم هندسة- Architecture القوة العالميّة . هناك خمسة وقائع/حقائق أساسيّة متعلقة بإعادة التموضع الناشئة حديثاً للقوة السياسيّة العالميّة – Global Political Power فضلاً عن الصحوة السياسيّة العنيفة في الشرق الأوسط، و هي كلها إشارات قدوم إعادة اصطفاف/تموضع- Realignment عالمي جديد.

أولى هذه الحقائق هو أن الولايات المتحدة مازالت الكيان الأقوى عالمياً اقتصاديا و سياسيّاً و عسكريّاً ، إلا أنّها و فقاً للتحولات الجيوبولوتيكيّة المُعقدة في التوازنات الإقليمية ، فهي لم تعد القوة الإمبراطورية على الصعيد العالمي ، و هذا ينطبق على القوى الكبرى الأخرى.

و الحقيقة الثانيّة ، هي أنّ روسيا تختبر أحدث طور من أطوار انحلال [ إعادة توزيع] ارثها الإمبراطوري . و التي هي عملية موجعة .

فروسيا ليس هناك ما يعيقها – إن تصرفت بحكمة – من أن تتطور لتكون دولة وطنيّة/قوميّة nation-state أوربيّة قياديّة ، أمّا حالياً فهي تعادي بلا هدف واضح بعضاً من تابعيها السابقين في الجنوب الغربي الإسلامي و هو ما كان مرة جزءاً من إمبراطورتيها الشاسعة ، فضلاً عن أوكرانيا و بيلاروسيا و وجورجيا ، هذا بدون التطرق إلى جمهوريات البلطيق .

الحقيقة الثالثة ، هي أنّ الصين تنهض باطراد ، و إن تباطأ ذلك مؤخراً ، كرديف مساوي لأمريكا و منافس مرجح ، و لكنها في الوقت الحالي حريصة على أن لا تُظهر تحدٍ صريح لأمريكا ، و عسكرياً يبدو أنّها تسعى للتقدم في مجال الجيل الجديد من الأسلحة ،في الوقت الذي تعزز فيه بصبر قوتها البحريّة المحدودة القدرات .

أمّا الحقيقة الرابعة ؛ فهي أنّ أوروبا في الوقت الراهن ليست قوة عالميّة و لا يرجح أن تكون كذلك في وقت قريب ، إلا أنّها قادرة على لعب دور بناء في المبادرة ضد التهديدات العبر-وطنيّة – Transnational المتعلقة بنظام الرفاه العالمي بل حتى حياة الإنسان و بقاؤه

فضلاً عن ذلك ، فإنّ أوروبا متوافقة و داعمة ثقافيّاً و سياسيّاً للمصالح الجوهريّة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط ، و التعاضد الأوروبي ضمن منظومة حلف ” الناتو ” هو ضرورة للتوصل إلى حل بنّاء للأزمة الروسية الاوكرانيّة في نهاية المطاف .

الحقيقة الخامسة؛ هي أنّ الصحوة السياسية العنيفة بين المسلمين في حقبة ما بعد الاستعمار Post-colonial ، تعود جزئياً ، إلى رد فعل متأخر/مؤجّل للقمع الوحشي الذي تعرضوا له من حين لآخر و الذي غالباً ما كان على يد قوى أوربيّة .

و إن تأخر فتيل تلك الصحوة في الاشتعال ، إلا أن الإحساس المتجذر بالظلم مضافاً إليه الدافع الديني هو من يوحّد عدداً هائلا من المسلمين ضد العالم الخارجي . و لكن في الوقت ذاته ، فإن ذلك بسببٍ من الانقسامات الطائفيّة التاريخيّة داخل الإسلام و التي لا تمت بصلة للغرب ،إذ أنّ الانبثاق الحالي لمظالم تاريخيّة مثير للخلافات/الانقسامات داخل الإسلام كذلك .

آخذين تلك الوقائع/الحقائق الخمسة مجتمعةً ضمن إطار موّحد ، فإنها تخبرنا بأنه يجب على الولايات المتحدة تولى زمام المبادرة في إعادة تنظيم – Realigning بنيّة القوة العالميّة ، بطريقة تضمن انّ الثوران العنيف عبر – و يتصور أحياناً أنّ يجاوز – العالم الإسلامي ، و مستقبلا ربما في مناطق أخرى في ما اصطلح على تسميته بالعالم الثالث ، أن يكون قابلاً للاحتواء [ أي الثوران] بدون تدمير النظام العالمي .

و يمكننا أن نخطط هذه البنية الجديدة ، بأنّ ندرس بإيجاز كلا من تلك الوقائع الخمسة التي ذُكرت أعلاه .

اولاً : يمكن لتعامل أمريكا مع العنف الشرق الأوسطي الراهن أن يكون فعالاً فقط إذا ما شرعت في الإعداد لتحالف يشمل – و إن بدرجات متفاوتة – روسيا و الصين .

و لتمكين مثل هذا التحالف من التبلّور و التشكل ، فيجب أولاً ان تُثنى روسيا عن اعتمادها على استخدام القوة من جانب واحد ضد جيرانها – لا سيما أوكرانيا و جورجيا و دول البلطيق – .

أما الصين ، عليها أن تتحرر من فكرة أنّ الانانيّة السلبيّة في مواجهة الازمات الإقليميّة المتصاعدة في الشرق الأوسط ، هي فكرة مجزيّة سياسياً و اقتصادياً لطموحاتها في الساحة الدوليّة .

فدوافع هذه السياسة قصيرة النظر ، تحتاج لأن يُعاد توجيهها ضمن رؤية [ سياسيّة] بعيدة النظر .

ثانياً : إن روسيا و للمرة الأولى في تاريخها تتحول لتكون دولة قوميّة/وطنيّة National state بحق ، و هو تطور بقدر خطورته إلا أنه قد تم تجاهله عموماً .

فالإمبراطورية القيصرية ، بقاطنيها متعددي القوميات و الذين هم إلى حد كبير غير فاعلين سياسيّاً ، و صلت إلى نهايتها في الحرب العالميّة الأولى ، و أخذ مكانها تشكيل البلشفيّة – زعماً – لاتحاد طوعي لجمهوريات وطنيّة/قوميّة ( الاتحاد السوفيتي) مع تركّز القوة الفاعلة في يد الروس .

قاد انهيار الاتحاد السوفيتي في نهاية 1991 إلى صعود مفاجيء لدولة روسيّة [ يهيمن عليها الروس ] كوريثة له ، و لإعادة تشكل ” جمهوريات ” الاتحاد السوفيتي غير الروسيّة إلى دول مستقلة رسميّاً .و هذه الدول الآن تصون استقلالها ، بينما الصين و الغرب كلاهما – و في مناطق مختلفة و بطرق مختلفة – يستغلان تلك الحقيقة الجديدة بما يتناقض و المصلحة الروسيّة .

و في الوقت ذاته فإن مستقبل روسيا يعتمد على قدرتها لتتحول إلى دولة قوميّة  هامة و نافذة ، و التي بدورها تكون جزءاً من أوروبا الموّحدة . و عدم قيامها بذلك قد تكون له عواقب سلبيّة دراماتيكيّة ، فيما يخص قدرة روسيا على تحمّل الضغط الديموغرافي – الإقليمي القادم من الصين ، و التي تميل أكثر فأكثر و بفضل تصاعد قوتها ، لمراجعة المعاهدات غير ” المتكافئة ” التي كانت موسكو أملتها على الصين فيما مضى .

ثالثاً : النجاح الكبير للاقتصاد الصيني ، يستلزم تفهماً دائماً، كذلك فيما يخص وعي الدولة بأن التعجّل السياسي سيقود إلى خراب اجتماعي . و يبدو أنّ أفضل منظور سياسي ننظر من خلاله إلى الصين في المستقبل القريب، هو أن تتحول إلى شريك رئيس لأمريكا في احتواء الفوضى العالميّة خاصة تلك التي قد تنتشر خارج الشرق الأوسط (بما في ذلك الشمال الشرقي ). والتي إن لم يتم احتوائها سوف تنتقل عدواها – Contaminate للجنوب الروسي و المناطق/الأقاليم الشرقيّة، كذلك الأقسام الغربيّة من الصين.

إن توثيق العلاقات بين الصين و الجمهوريات الجديدة في وسط آسيا، و الدول الإسلاميّة المستقلة عن بريطانيا -Post-British في الجنوب الغربي لآسيا ( لاسيما باكستان) و على الخصوص مع إيران ( آخذين بعين الاعتبار وضعها الاستراتيجي و أهميتها الاقتصادية ) هي الأهداف البدهيّة للتمدد/التوسّع الجيوبولوتيكي الإقليمي للصين ، و لكن يجب عليهم [ الصينيون ] أن يرنوا إلى تفاهم و انسجام صيني-امريكي Sino-American عالمي .

رابعاً : لن يعود الحد الأدنى المقبول من الاستقرار إلى الشرق الأوسط ، طالما أنّ التشكيلات العسكريةّ المسلحة المحليّة ، تأخذ في حساباتها أنها – و بما يشملها جميعها – يمكن أن تكون المستفيدة من إعادة التنظيم الإقليمي ، في الوقت الذي تستخدم و تحرض على العنف الفظيع و الموجه بشكل انتقائي.

إن قدرتهم على التصرف بشكل همجي و حشي لا يمكن كبحها إلا بالضغط الفعّال المتزايد – كذلك الانتقائي – المستمد من قاعدة العمل المشترك بين الولايات المتحدة و روسيا و الصين و الذي بدوره يعزز من احتمال الاستخدام المسؤول للقوة من قبل الدول الأكثر استقراراً و ثباتاً ( أي إيران و تركيا و إسرائيل و مصر ) و ينبغي للأخيرة أن تكون المستفيدة من مزيد من الدعم الانتقائي الأوروبي .

و في ظروف طبيعيّة فالسعودية قد تكون لاعباً هاماً على تلك القائمة ، و لكن الميل الحالي للحكومة السعوديّة ما يزال نحو تشجيع / تعزيز التشدد الوهابي – حتى وهي منغمسة في جهود طموحة للتحديث modernization على الصعيد المحلي – يبقى ليثير شكوكاً خطيرة حول قدرة السعوديّة على لعب دورٍ إقليمي بنّاء .

خامساً : ينبغي التركيز باهتمام خاص على الجماهير الثائرة سياسياً مؤخراً في غير العالم الغربي ، فذكريات القمع/الكبت السياسي الطويل تغذي الصحوة المفاجأة و المتفجرة و التي يحفزها الإسلاميون المتشددون في الشرق الأوسط ، و ما يحدث في الشرق الأوسط اليوم قد يكون بداية لظاهرة /حدث أكثر انتشاراً و توسعاً، يُجاوز الشرق الأوسط إلى افريقيا و آسيا بل حتى عبر شعوب المستعمرات السابقة في نصف الكرة الغربي في السنوات اللاحقة .

فمجازر المُستعمِرين المتكررة ضد اسلافهم غير البعيدين و المرتبطة بالباحثين عن الثروة الذين كان أغلبهم من أوروبا الغربيّة ( من دول هي اليوم – ماتزال و إن مؤقتاً على الأقل – الأكثر انفتاحاً على تعايش الأعراق ) و التي أدت خلال القرنين السابقين بل قل القرون السابقة إلى مجزرة بحق الشعوب المُستعمَرة بمستوى مقارب لجرائم النازيين في الحرب العالميّة الثانيّة ، إذ اشتملت على مئات الآلاف بل حتى الملايين من الضحايا . إذ أنّ الرغبة في اثبات الذات سياسيّاً مضافاً إليها الغضب المكبوت و المرارة ، هي قوة جبارة باتت اليوم تطفو قريباً من السطح ، متعطشة للانتقام . لا في الشرق الأوسط المسلم –فحسب – بل من المرجح أن تجاوزه إلى مناطق ابعد .

مع أنّ كثير من البيانات لا يمكن اثباتها بدقة ، لكنها صادمة إن ما اخُذت بشكل جامع و لنحاول أن نضرب بعض الأمثلة التي تفي بالغرض ؛ ففي القرن السادس عشر انخفض تعداد ساكني امبراطوريّة ” الازتيك ” من 25 مليون إلى مليون واحد ، بسبب الأوبئة التي جاء بها المستكشفون الاسبان . حدث مثل ذلك في أمريكا الشماليّة ، إذ ما يقدر بــ 90% من السكان الأصليين قد ماتوا بسبب الأوبئة كسبب أول، خلال الخمسة سنوات الأولى من التواصل مع المستعمرين/المستوطنين الاوربيين. و في القرن التاسع عشر قُتل 100000 أخرون ، نتيجة حروب متعددة و الإكراه على إعادة التوطين .

و في الهند بين عامي 1857-1867 يشتبه بأنّ الإنجليز قد قتلوا ما يناهز المليون من المدنيين في اعمال انتقاميّة تلت التمرد الهندي سنة 1857. امّا شركة الهند الشرقيّة الإنجليزيّة فقد وظفت الزراعة في الهند لإنتاج نبات الافيون ثم أجبرت الصين – بشكل خاص – على استهلاكه مسببة في الوفيات المبكرة للملايين ، بدون أن نلحق بتلك الأرقام الضحايا الصينيون المباشرون لحرب الأفيون الأولى و الثانيّة .   أمّا في ” الكونغو ” و التي كانت محميّة خاصة بملك بلجيكا ” ليوبولد الثاني ” فقد قتل ما بين 10-158 مليون انسان بين عامي 1890 و 1910 . و في فيتنام فالتقديرات الحديثة تقترح ان هناك ما بين 1 على 3 ملايين مدني قد قتلوا ما بين 1955 إلى 1975 .  أما بالنسبة لمسلمي القوقاز الروسي، فقد نزح قسراً 90 بالمئة من السكان و مات ما بين 300.000 إلى 1.5 مليون بسبب من الجوع او القتل . و ما بين عامي 1916 و 1918 قُتل عشرات الآلاف من المسلمين عندما أكرهت السلطات الروسيّة 300.000 من الأتراك المسلمين على النزوح من جبال آسيا الوسطى إلى الصين . و في إندونيسيا و بين عامي 1835 و 1840 قتل المحتلون الهولنديون ما يقدر بـ 300.000 مدني . و في الجزائر فإن الوحشية الفرنسية و المجاعة و الامراض و التي تلت 15 عاماً من الحرب الأهليّة من 1830-1845 ، قتلت 1.5 مليون جزائري ، و هو ما يقرب من نصف السكان .  أما جارتها ليبيا ، فقد سجن الإيطاليون سكان الساحل الليبي الشرقي “برقة – Cyrenaicans ” [ تشير كلمة Cyrenaica إلى منطقة الساحل الشرقي ليبيا ، و هي تسمية اغريقيّة] في معسكرات اعتقال ، حيث يقدّر انّ 80.000 إلى 500.000 قد ماتوا بين عامي 1927 و 1943.

و منذ عهد اكثر قرباً ، قُدر أن الاتحاد السوفيتي قد قتل ما يقرب من مليون انسان في أفغانستان بين عامي 1979 و 1989 ، و بعد عقدين من الزمن قتلت الولايات المتحدة 26.000 من المدنيين خلال حربها التي دامت 15 عاماً . في العراق قُتل 165.000 مدني من قبل الولايات المتحدة و حلفائها في السنوات الـ 13 الأخيرة. (إن التفاوت بين تعداد ضحايا المُستعمِرين الأوربيين مقارنة بتعداد ضحايا الولايات المتحدة و حلفائها في أفغانستان و العراق ، قد يعود إلى التفوق التكنولوجي الذي أدّى إلى توظيف اكثر كفاءة للقوة كما يعود في جزء منه على التحوّل في بيئة المعايير العالميّة) إن سرعة نسيان الغرب لتلك الفظائع هي صادمة تماماً كحجمها.

في عالم حقبة ما بعد الاستعمار ، هناك سرديّة تاريخيّة في طور النشوء، فالغضب/الضغينة العميقة إزاء الغرب و إرثه الاستعماري في العالم الإسلامي و في ما يجاوزه ، يُوظّف لتبرير احساسهم بالحرمان و افتقاد الكرامة . مثال صريح على تجربة و موقف الشعوب المُستعمَرة قد لخصه جيداً الشاعر السينغالي ” ديفيد ديوب – David Diop ” في قصيدة ” العقبان ” :

” في تلك الأيام

عندما قست علينا الحضارة

شيدت العقبان تحت ظلال مخالبها

نُصب الوصاية الملطخ بالدماء “

In those days,

When civilization kicked us in the face

The vultures built in the shadow of their talons

The blood stained monument of tutelage…

بالنظر إلى ذلك كله ، فإن الطريق الطويل و المُضني تجاه تسويّة إقليمية مبدئية و محدودة هو السبيل الوحيد القابل للتطبيق و للحياة لكل من الولايات المتحدة و روسيا و الكيانات – Entities الشرق اوسطيّة ذات الصلة .

بالنسبة للولايات المتحدة ، فإن ذلك يتطلب المثابرة الصبورة لصياغة علاقات تعاون مع بعض الحلفاء الجديدين ( خصوصاً روسيا و الصين) كما يتطلب بذل جهود مشتركة لصياغة /تشكيل اطار عمل أوسع للاستقرار الإقليمي ، مع الدول الإسلامية ذات الجذور التاريخيّة و الأكثر استقرتاً و رسوخاً ( تركيا و إيران و مصر و السعودية إذا ما تمكنت من فصل سياستها الخارجيّة عن التطرف الوهابي).

كما يمكن لحلفائنا الأوربيين – المهيمنين السابقين على المنطقة – أن يكونوا ذا نفع في ذلك الشأن .

إنّ انسحاب الولايات المتحدة التام من العالم الإسلامي ، و هو ما يفضله دعاة الانعزال المحليون ، يمكن أن يؤجج حروباً جديدة ( على سبيل المثال : إسرائيل ضد ايران او السعوديّة ضد إيران ، تدّخل مصري كبير في ليبيا ) و سيوّلد أزمة ثقة عميقة بدور أمريكا في الحفاظ على الاستقرار العالمي.

بطرق متنوعة و غير متوقعّة إلى حد كبير ، فإن روسيا و الصين قد يكونا المستفيدين على الصعيد الجيوبولوتيكي [ الجيو-سياسي] من مثل ذلك التطور حتى و ان كان النظام العالمي ذاته الضحية الجيوسياسيّة المباشرة – Geopolitical Casualty .

أخيراً و ليس آخراً ، في مثل تلك الظروف ، فإن أوروبا المنقسمة و المذعورة ستجد دولها من الأعضاء الحاليين ، تبحث عن راعين/حامين و تتنافس فيما بينها لخلق اتفاقيات و ترتيبات بديلة [ عن أوروبا الموحّدة] و لكن منفصلة ، لصالح الثلاثي القوي [ أمريكا و رسيا و الصين ] .

إنّ السياسة البناءة للولايات المتحدة يجب أن توجّها و برويّة رؤية بعيدة المدى ، و عليها ان تسعى خلف ما يحث و يعزز الادراك التدريجي في روسيا ( غالباً بعد حقبة بوتين) بأن مكانها الوحيد كقوة عالميّة فاعلة هو في ان تكون جزءاً من أوروبا، في نهاية المطاف.

امّا دور الصين المتصاعد في الشرق الأوسط يجب ان يعكس الادراك /الوعي الأمريكي الصيني المتبادل ، بأن الشراكة النامية بين الولايات المتحدة و جمهورية الصين الشعبية في تدبير الازمات الشرق الأوسطيّة ، هي امتحان [ الشراكة بينهما] تاريخي خطير لقدرتهما -كشريكين-على تنظيم و تعزيز الاستقرار العالمي على نطاق أوسع .

إن البديل عن السياسة البناءة ، خاصة السعي إلى نتائج تفرض عسكريّا و أيديولوجيّاً من قبل طرف واحد ، لا يمكن أنّ يؤدي إلا إلى الدخول مرحلة مطولّة من العبث المدمّر .

بالنسبة لأمريكا فإن ذلك البديل قد يستتبع صراعات مستمرة و الإنهاك و من المحتمل كذلك أن يؤدي إلى انسحاب مُحبِط إلى حقبة السياسة الانعزاليّة – Isolationism التي سادت ما قبل القرن العشرين . و أمّا لروسيا فإن ذلك يعني هزيمة كبرى ، و زيادة احتمالية الخضوع و التبعيّة بشكل ما إلى السيطرة/الهيمنة الصينيّة . أما الصين ، فإن ذلك قد ينذر بحرب لا مع الولايات المتحدة فحسب بل مع اليابان أو الهند أو حتى مع كليهما .

و بأي حال من الأحول ، فإن حقبة طويلة من الحروب الإثنيّة/العرقيّة و شبه الدينيّة ، مع التعصب الذاتي الأعمى ، في الشرق الأوسط ، ستؤدي إلى تزايد حمامات الدم في المنطقة و خارجها و تصاعد الوحشيّة في كل مكان .

في الحقيقة ، لم تكن هناك يوما قوة عالميّة ” مهيمنة” حتى بروز أمريكا على الساحة العالميّة ، لقد كانت بريطانيا العظمى الإمبراطورية قريبة كمن ان تكون قوة مهيمنة ن إلا ان الحرب العالمية الأولى و الثانيّة لم تُفلسها [ اقتصادياً] و حسب لكنها دفعت لظهور قوى إقليمية منافسة ، فالواقع العالمي الجديد الحاسم [ بعد الحربين العالميتين ] كان ظهور أمريكا في المشهد العالمي بوصفها اللاعب الأغنى و الأقوى عسكريّاً في الوقت ذاته ، و خلال القرن العشرين ما من قوة أخرى استطاعت ان تقترب من أن تكون كذلك .

و تلك الحقبة باتت اليوم في طور النهاية ، و في حين أنّه ليس من المرجح ان توازي أي دولة من الدول التفوق الاقتصادي- المالي لأمريكا ، إلا أنظمة التسليح الجديدة قد توفر لبعض الدول – مع تعمد الانتحار في مثل هذه الحالة – عناقاً نووياً الولايات المتحدة على مبدأ ضربة بضربة – tit-for-tat ، و ربما قد تتفوق على الولايات المتحدة في تلك الضربة .

و بدون الخوض في تفاصيل تخمينيّة ، فإنّ اكتساب بعض الدول الغير المتوقع للقدرة على هزيمة التفوّق العسكري الأمريكي يعني نهاية الدور الأمريكي العالمي . و ستكون النتيجة على الاغلب هي الفوضى العالميّة . و هذا هو السبب في لمَ يتوجب على الولايات المتحدة ان تصوغ سياسة بحيث تتحول إحدى الدول المُهدِدة [ روسيا و الصين ] على الأقل إلى شريك في السعي إلى استقرار إقليمي ثم لاحقاً على مستوى عالمي أوسع .

و بالتالي تنجح في احتواء الدولة الأقل قابليّة للتنبؤ بتصرفاتها والتي هي الخصم الذي يرجح أن يتمادى ضد الولايات المتحدة ، و في الوقت الراهن ، فإن الدولة المحتمل تماديها هي روسيا و لكن على المدى الابعد قد تكون الصين .

بما أن السنوات العشرين القادمة قد تكون المرحلة الأخيرة من الاصطفافات/التحالفات السياسيّة الأكثر تقليديّة و التي ألفناها و تطورنا عبرها بأريحيّة ، فإن الاستجابة [ السياسيّة] تحتاج لأن تُرسم و تُشكّل الآن .

فخلال بقية هذا القرن ستكون الإنسانية اكثر انشغالاً بسؤال بالبقاء إذا ما اعتبرنا كمّ التحديات البيئيّة/المناخية ، و هي تحديات يمكن فقط مواجهتها بمسؤوليّة و فعاليّة إذا ما كنا في وضعيّة من التوافق الدولي . و ذلك التوافق يجب أن يؤسس على قاعدة من الرؤية الاستراتيجية التي تعترف بالحاجة الضروريّة لإطار جيوبولتيكي – Geopolitical framework جديد .

المصدر

[ يمنع اقتباس ” بعض ” أو ” كل ” من المواد و النصوص المنشورة و المترجمة على نواقيس © إلا بعد مراسلتنا و مواقفتنا عبى ذلك، نقدر لكم تفهمكم]

[أو من طريق الرابط هنا read@nawaqees.com : لأية ملاحظات على التَّرْجَمَة أو المعلومات المنشورة يرجى التواصل على ] 

 

 

We don’t spam! Read our privacy policy for more info.

نواقيس ؛ محاولة أصلها إيمان بفعل القراءة ،كفعل وعي وتنوير وممارسة (Praxis) يتضمن موقع نواقيس منتخبات معاصرة ولا راهنيّة في الفكر و الفلسفة  والسياسة، إذ نؤمن أنّ هناك ما هو ضروري اكثر من متابعة الاحداث  الراهنيّة – كما تروى في شريط الأخبار – والكتابة عنها.

للتواصل و المساهمة اتبع الرابط

Books 111
Send this to a friend