” العراق ،سينتهي في القريب العاجل، بلا تاريخ “ ( نقلاً عن عالمة الآثار جوانا فرشخ Joanna Farchakh ، التطهير الثقافي في العراق، مطبعة بلوتو، 2010).
في كتابه الذي قل نظيره “من سومر إلى صدام ” كتب ” جيف سيمونز- Geoff Simons” :
” إن ذلك الجزء من العالم الذي أسماه الإغريق MESOPOTAMIA (بلاد ما بين النهرين) … كان منبعا للحضارة – بوتقة حقيقية … مهد ورحم التقدم الثقافي … هنا ولدت المدن الأولى، بدأت الكتابة و تم تأسيس أول النظم القانونية المدونة. هنا، عبر هذه الأراضي القديمة كما سومر، آكد، بابل وآشور اختمر العنصر الثقافي الحيوي للحضارة، الذي انبثقت منه الحضارة الغربية باتصال واضح.”
و يخلص فصل ” البوتقة القديمة ” من الكتاب:
” بعد تأمل وتفكير يحق للعراق الحديث أن يفتخر بإعزاز و إجلال بالثراء المثمر للحضارات التي ظهرت لأول مرة في هذه الأرض منذ أكثر من خمسة آلاف سنة.”
منذ بداية الغزو الأمريكي – البريطاني كان هناك عمليات استئصال متعمدة و ممنهجة ” للثراء الخصيب” اجتماعياً و ثقافياً وتاريخياً في واحدة من أكثر الغزوات الثقافية تدميرا و استبدادا و تدنيساً في التاريخ. يوافق 19 آذار الذكرى الثانية عشرة لتدمير تلك “البوتقة “، و ما زالت عجائب و معجزات تلك البوتقة تتعرض للنهب والتدمير دون توقف.
عندما تم نهب المتحف الوطني (10-12 نيسان 2003) كانت القوات الأمريكية تقف بقربه – في حين زملائهم كانوا يحرسون بإنضباط وزارة النفط.
عندما نهبت بعض أجّل معجزات العصور القديمة – خمسة عشر ألف قطعة – علق ” دونالد رامسفيلد ” المعتوه ثقافياً : “هذه أمور قد تحدث ” لقد أُعطي الجيش الامريكي إحداثيات / مواقع كل متاحف العراق و الآثار و المواقع الأثرية ، و ” العراق كله كنز أثري” – كما علق عالم آثار في ذلك الوقت- و رغم ذلك، فإن القوات الأمريكية قادت منهج التدمير ؛ فلتنشيء قاعدة عسكرية في بابل (التي يعود تاريخها إلى 2300 عام قبل الميلاد) – موقع الجنائن المعلقة – تم تجريف المعجزات القديمة لبناء مهبط لطائرات الهليكوبتر العسكرية ، و فعلوا الأمر ذاته بجوار ما يعتقد أنه مكان مولد إبراهيم، قرب ” زقورة- Ziggurat ” أور العظيمة. و يعود تاريخ أور إلى 3800 قبل الميلاد إلا أنها سجلت في التاريخ المكتوب منذ القرن 26 قبل الميلاد. إنها جرائم حرب نكراء.
بعد أن أعلن جورج دبليو بوش “الحروب الصليبية” دخل الجنود الأمريكيون الصليبون (بالمعنى الحرفي) إلى العراق المسلم (كما حدث في أفغانستان) مع الآلاف من الأناجيل التي أهديت لهم، إلا أنه من الواضح أنه تم تجاهل قداسة ” بابل “و “أور ” التي وردت في الديانات الإبراهيمية الثلاث، وتم تدميرهما. لقد ذكرت بابل في الكتاب المقدس في كتب ” دانيال” و ” أشعيا ” و ” أرميا ” و ورد ذكر أور ثلاث مرات في سفر التكوين و سفر” نحميا” .
أدى التخريب الإجرامي للجنود الامريكيين: ” أن تصبح بابل جرداء قاحلة أثرياً.” (الغارديان، 8 يونيو 2007.) و : ” تم استخدام باحة Khan al-Raba التي تعود للقرن العاشر لتفجير الأسلحة التي يتم العثور عليها و قد هدم أحد هذه التفجيرات الأسطح القديمة و أسقط العديد من الجدران ، المكان الآن خراب” إنهم البرابرة يقتحمون بوابة عشتار.
و استمر الدمار في ارجاء العراق من قبل قوات الاحتلال والعصابات و الفصائل التي لا رادع لها و الذين توافدوا مع الغزو بسبب التخلي السقيم عن مراقبة الحدود من قبل الولايات المتحدة و بريطانيا – هذه الدول التي تسيطر على حدود بلدانها بشكل يقارب حد الجنون- يقارن علماء الآثار والمؤرخين الحديثين ما حدث اليوم بسقوط بغداد في يد المغول عام 1258.
يوم الجمعة التاسع من آذار، يوم المسلمين المقدس، تم تجريف مدينة النمرود القديمة بيد من دعت نفسها “الدولة الإسلامية” لتدمر ما الذي كانت عاصمة الإمبراطورية الآشورية الحديثة، التي يعود تاريخها إلى القرن الثالث عشر13 قبل الميلاد. كما يتضمن الموقع بقايا قصر Ashurnasirpal الثاني، ملك آشور (883-859 ق.م) الذي جعل نمرود عاصمة له.
و قد أطلع مصدر محلي وكالة رويترز ان الأشياء الثمينة نهبت ثم سويت المدينة بالأرض، أحد مداخل هذا المكان المسكون بالأرواح كان تحت حراسة إنسان برؤوس ثيران وأسود و أجنحة صقر ، أولئك الحراس الذين صمدوا خلال حقب الاضطرابات التي عصفت بالمنطقة لما يقرب الثلاثة آلاف سنة، ليتم تدميرهم مع كل ما شاهدوه و شهدوه ، من قبل إرهابيين فرخهم الغزو الإجرامي لبوش و بلير.
في القصر الجنوبي الغربي معبد ” نابو- Nabu “إله الحكمة والفنون والعلوم، والذي يعتقد انه ابن الإله البابلي، “مردوخ ” كان البناء على الارجح بين 810-782 قبل الميلاد. قال المؤرخ ” توم هولاند – Tom Holland” لجريدة الجارديان:
” إنها جريمة ضد آشور، ضد العراق، و ضد الإنسانية ، دمر الماضي ستتحكم في المستبقل النازيون يعرفون هذا، و الخمير الحمر ، و الدولة الإسلامية من الواضح أنها تفهم هذا “.
بعد يومين أفادت تقارير أن مدينة الحضر دمرت لحد كبير، واحدة أخرى من عجائب العالم. بنيت مدينة ” الحضر- Hatra ” في القرن الثاني أو الثالث قبل الميلاد، في نفس الوقت الذي بنيت فيه مدن عربية كبرى كتدمر في سوريا والبتراء (“المدينة الوردية عمرها نصف مدينة الحضر”) في الأردن وبعلبك في لبنان. الحضر صمدت في وجه الاعتداءات المتكررة من قبل الإمبراطورية الرومانية لتهزم على يد من فرختهم أعمال بوش وبلير.
يصف دليل وزارة السياحة العراقية عام 1982 مدينة الحضر قائلا:
“… زخارف ممزوجة بمنحوتات كأنها تروي قصة دينية يؤدي أدوارها آلهة وموسيقيين – هي أجمل الأعمال الفنية التي اكتشفت للآن”
في هذه المدينة الأثيرية العظيمة ذات الحجارة البيضاء التي تتلألأ كالذهب في ضوء الشمس، وتتوهج كالعنبر عند شروق الشمس وغروبها. الأعمدة و المعابد و التماثيل تتواصل ليس فقط من خلال معابد الآلهة، ولكن بالتأكيد عبر هندسة الآلهة المعمارية ، لتدفع أي كاتب ليبتكر كلمات لم تعرفها الأبجدية بعد. وهناك معبد للآلهة “شاهيرو – Shahiro ” -“نجمة الصباح” و هي منطقة :
” رُصفت بالرخام المعرق، و جدران مزينة بالتصاميم الهندسية و النسور – كانت النسور العنصر الرئيسي في ديانة منطقة ” الحضر ” – و فوق الزخارف المنمنة، كتابات عربية تعود للنصف الثاني من العصر العباسي” (750-1258 م) إذ تعد الخلافة العباسية “العصر الذهبي للحضارة الإسلامية “.
النقوش هي في الغالب باللغة الآرامية القديمة، بعضها ينص: “ملوك وأمراء الحضر هم ملوك العرب الممجدون ” و بالتأكيد هم ينتحبون الآن ، و بالنسبة لأولئك الذين يعرفون هذه الأعاجيب والمعجزات، لن تشفى قلوبهم أبداً ،ولن تجف دموعهم.
في زيارتي الأخيرة وقفت أمام تمثال Abbu زوجة Santruk الأول و تذكرت تأملات ” جيمس إلروي فليكر- James Elroy Flecker ” في المتحف البريطاني. و وحيدا في فجر لازوردي ، كررتها أمامهم بصوت عال، :
” في قاعة ما في بلومزبري
حيث لا أجرؤ على التقدم خطوة،
إذ يصرخ رجال من حجارة في وجهي ، و أقسم أنهم ليسوا ميتين
و عندما لمست تمثال الفتاة المكسور، علمت أن الرخام نزف “
في اليوم التالي لتدمير الحضر، كان التدمير مصير ” خورسباد- Khorsabad ” التي كانت العاصمة الرابعة لآشور، التي بناها سرجون الثاني (721-705 قبل الميلاد) و تُظهر الكتابات مدينة فيها حلبة صيد ملكية و حدائق زرع فيها : “جميع النباتات العطرية” التي وجدت في أودية نهر الفرات الخصبة و آلاف الأشجار المثمرة، بما في ذلك السفرجل واللوز والتفاح. نهبت خورسباد على نطاق واسع من قبل الفرنسيين في القرن التاسع عشر ومن الأميركيين ما بين 1928 و 1935.
في الحفريات التي بدأها القنصل العام الفرنسي في الموصل في عام 1842، جرت محاولة: ” لنقل اثنين من التماثيل تزن 30 طن ومواد أخرى إلى باريس من خورسباد على متن قارب كبير وأربع عوامات” اثنتين من العوامات والقارب أغرقت من قبل القراصنة والكنوز العراقية المسروقة فقدت إلى الأبد.”
في عام 1855، كانت هناك محاولة أخرى لشحن الكنوز المتبقية : ” فضلا عن مواد من مواقع أخرى كان الفرنسيين ينقبون بها – مدينة نمرود على وجه الخصوص- تقريبا كل المجموعة ، اكثر من مئتي صندوق ، فُقدت في النهر وما تبقى من تحف هذه الحفريات تم نقله إلى متحف اللوفر في باريس “.
و في الفترة بين 1928-1935، نقب علماء آثار أمريكيون من معهد شيكاغو للدراسات الشرقيّة في منطقة القصر إذ ” تم اكتشاف ثور ضخم يزن حوالي 40 طنا خارج قاعة العرش وجد مقسماً لثلاثة أجزاء كبيرة ، الجذع وحده يزن حوالي 20 طن وقد تم شحنه إلى شيكاغو “.
البريطانيون والألمان نهبوا الكثير من جنوب العراق وخصوصا بابل وأور، وتشهد بذلك متاحفهم.
و قبل أسبوع من تدمير مدينة نمرود أحرق ما يقرب من 113000 كتاب ومخطوطة لا يمكن تعويضها من مكتبة الموصل من قبل متوحشي داعش في ما تصفه ” إيرينا بوكوفا- Irina Bokova” المديرة العامة لليونسكو، بأنه ” تطهير ثقافي – cultural cleansing ” و : “و احدة من أكثر الأفعال المدمرة لتراث المكتبات في عمر البشرية” و بعض تلك المخطوطات كانت ضمن قائمة اليونسكو للنوادر.
أضرمت المحرقة خارج المكتبة و ألقي فيها كتب سريانية طبعت في أول مطبعة في العراق؛ و مخطوطات القرن الثامن عشر، و مجلدات من العهد العثماني (1534-1704 و1831-1920). كم تم تدمير نوادر لا تعوض ن كالإسطرلاب ؛ وهو “كمبيوتر” فلكي لحساب توقيت مواقع الشمس والنجوم، استخدم في العصور الكلاسيكية القديمة والعصر الذهبي للإسلام ، و كذلك إبداعات من الساعات الرملية الرائعة.
أكثر من مائة مكتبة شخصية لعائلات بارزة من الموصل “منذ القرن الماضي” تم حرقها أيضا. ومن ثم تم تفجير مبنى المكتبة.
في الأسبوع ذاته، هوجم أيضا متحف الموصل ، ليتم تهشيم / تحطيم تماثيل آشورية وحضرية [ نسبة لمدينة الحضر ] – بما في ذلك أحد تماثيل لملك حضري [ أيضا نسبة لمدينة الحضر] وهو يحمل نسراً، و تمثال للثور المجنح و ” لإله روزهان “ God of Rozhan – . ويعتقد أن هناك تماثيل قد سُرقت لبيعها، على الأرجح في تركيا وسوريا.
في تموز من العام الماضي تم طمس قبر يعود عمره لقرون خلت و يعتقد أنه للنبي يونس في الموصل بسبب تفجير ” داعش” للمسجد الذي يوجد به القبر، ويعود تاريخ المسجد إلى القرن الرابع عشر ، والذي كان كنيسة قبل ذلك و قد اشتهر “مسجد يونس” لأن به جزء من بقايا الحوت الذي ابتلع يونس.
كل الدمار الذي وصف أعلاه حدث في محافظة ” نينوى” التي كتب عنها ” جون ماسفيلد – John Masefield ” :
” سفينة نينوى تجدّف من ” أوفير- Ophir” البعيدة،
عائدة لملاذها في فلسطين المشمسة،
وعلى متنها شحنة من عاج،
و قرود و طواويس،
خشب الصندل، وخشب الأرز، و نبيذ أبيض شهي المذاق “
العراق، وفلسطين يجري محوها، مع ليبيا وسوريا وحتى أهرامات الجيزة في مصر مهددة الآن من قبل وحوش أوجدتها حروب بوش و بلير الصليبية.
الولايات المتحدة و بريطانيا و كندا ودول أخرى لديها “مستشارين عسكريين” في العراق. جميعهم صامتين على جرائم حرب المغول الجدد. و بينما المواقع الإلكترونية للسفارة الأمريكية والسفارة البريطانية في بغداد صامتة ، نجد في موقع السفارة الأمريكية :
“وفيما يتعلق بوضع الارشيف اليهودي العراقي :
28 كانون ثان 2015
“إن الأرشيف اليهودي العراقي لا يزال في عهدة إدارة المحفوظات والسجل الوطني الأمريكي إلى حين الانتهاء من خطة المعارض المستقبلية في الولايات المتحدة ، لن يتم نقل أياً من المواد في الارشيف اليهودي العراقي خارج الولايات المتحدة ، و ستبقى الولايات المتحدة ملتزمة ببنود اتفاقها مع حكومة العراق “.
بطبيعة الحال حكومة تحت الاحتلال، لا يمكنها قانونياً أن تبرم مثل هذه الاتفاقيات.
“لقد أدى هذا المعرض الذي عرضت فيها المواد/الأرشيف في واشنطن في عام 2013 ونيويورك في عام 2014 لتفاهم أكبر بين العراق والولايات المتحدة، وإدراك أكبر لتراث العراق المتنوع ، ونحن نتطلع إلى مواصلة تعاوننا مع الحكومة العراقية في هذا الشأن بحيث يمكن نقل المعرض لمدن أخرى في الولايات المتحدة “.
وهكذا، فقد أُبعدت المحفوظات اليهودية العراقية (التي استولت عليها الولايات المتحدة الأمريكية في ايار 2003) و التي كانت مصونة في العراق منذ مئات السنين .
إلا أنها [ الولايات المتحدة ] تواطأت في (بابل و أور، ومتحف بغداد وغيرها) أو لم تحرك ساكناً عندما نهب “تراث العراق المتنوع” و تم تدميره بشكل ممنهج .
ومصادفة، فقد تم الإبلاغ عن اعتقال “مستشارين عسكريين” إسرائيليين و أمريكيين ضمن المساحات الشاسعة المدمرة لمحافظة نينوى، وهذه القصة تم طيها و لم تثار. هناك أسئلة أكثر بكثير من الإجابات المتاحة .
نُشر هذا المقال بعنوان : ” Iraq, the Ultimate War Crime: Erasing the History of Mesopotamia. The Destruction of Nineveh “
ترجمها لنواقيس : سوزان مصلح .