“قال أبو محمد : إنا […] تدبرنا أمر طائفتين ممن شاهدنا في زماننا هذا، ووجدناهما قد تفاقم الداء بهما:
فأما إحداهما فقد جاءت المصيبة فيها و بها، و هم قوم فتحوا عنفوان فهمهم وابتدأوا دخولهم إلى المعارف […] بمطالعة شيء من كتب الأوائل […]. فأشرفت هذه الطائفة من أكثر ما طالعت مما ذكرنا على علوم صحاح، براهينها ضرورية لائحة.
و لم يكن معها من قوة المنة و جودة القريحة و صفاء النظر ما تعلم به أن من أصاب في عشرة آلاف مسألة مثلا، فجائز أن يخطيء في مسألة و احدة لعلها أسهل من المسائل التي أصاب فيها. فلم تفرق هذه الطائفة بين ما صح مما طالعوه بحجة برهانية، و بين ما في أثناء ذلك و تضاعيفه مما لم يأت عليه من ذكره من الأوائل إلا بإقناع أو بشغب و ربما بتقليد. فحملوا كل ما أشرفوا عليه محملا واحدا، و قبلوه قبولا مستويا، فاستشرى فيهم العجب و تداخلهم الزهو، وظنوا أنهم قد حصلوا على مباينة العالم في ذلك [ فسخروا] من كل شيء من علوم الديانة. ولم تلق هذه الطائفة المذكورة من حملة الدين إلا أقواما لا عناية عندهم بشيء مما قدمناه، و إنما عنيت من الشريعة بأحد ثلاثة أوجه: إما بألفاظ ينقلون ظاهرها ولا يعرفون معانيها ولا يهتمون بفهمها. وإما بمسائل من الأحكام لا يشتغلون بدلائلها ومبعثها وإنما حسبهم منها ما أقاموا به جاههم وحالهم. وإما بخرافات منقولة من كل ضعيف وكذاب وساقط لم يهتموا قط بمعرفة صحيح منها من سقيم، ولا مرسل من مسند، ولا ما نقل عن النبي (ص) مما نقل عن كعب الأحبار أو وهب بن منبه […]. فنظرت الطائفة الأولى من هذه الآخرة بعين الاستهجان والاحتقار والاستجهال[…].
وأما الطائفة الثانية فهم قوم ابتدأوا الطلب لحديث النبي (ص)، فلم يزيدوا على طلب علوم الإسناد وجمع الغرائب دون أن يهتموا بشيء مما كتبوا أو يعلموا به، وإنما تحملوه حملا لا يزيدون على قراءته دون تدبر معانيه […] بل أكثر هذه الطائفة لا يعمل عندهم إلا ما جاء عن طريق […] الكتب التي إنما هي خرافات موضوعات وأكذوبات مفتعلات […]. فأطلقت هذه الطائفة كل اختلاف لا يصح: من أن الأرض على حوت، والحوت على قرن ثور، والثور على الصخرة، والصخرة على عاتق ملك، و الملك على الظلمة، و الظلمة على ما لا يعلمه إلا الله عز وجل […].
فكان كلام هذه الطائفة مغريا للطائفة الأولى بكفرها ومغبطا لهم لشركهم، إذ لك يروا في خصومهم في الأغلب إلا من هذه صفته.
ثم زادت هذه الطائفة الثانية غلوا في الجنون […] فعابوا كتبا لا علم لهم بها، ولا طالعوها، ولا رأوا منها كلمة، ولا قرؤوها، ولا أخبرهم عما فيها ثقة، كالكتب التي فيها هيئة الأفلاك ومجاري النجوم، والكتب التي جمع أرسطوطاليس في حدود الكلام (= المنطق).[…] وهذه الكتب كلها كتب سالمة مفيدة، دالة على توحيد الله، عز وجل، وقدرته، عظيمة المنفعة في انتقاد جميع العلوم”
ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل، مكتبة خياط، بيروت، د.ت.ج.2 ص93-95.